كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



المسألة الثانية:
قال: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى} وهذا يدل على أن تخليق البشر لا يتم إلا بأمرين التسوية أولًا، ثم نفخ الروح ثانيًا، وهذا حق لأن الإنسان مركب من جسد ونفس.
أما الجسد فإنه إنما يتولد من المني، والمني إنما يتولد من دم الطمث وهو إنما يتولد من الأخلاط الأربعة، وهي إنما تتولد من الأركان الأربعة، ولابد في حصول هذه التسوية من رعاية مقدار مخصوص لكل واحد منها، ومن رعاية كيفية امتزاجاتها وتركيباتها، ومن رعاية المدة التي في مثلها حصل ذلك المزاج الذي لأجله يحصل الاستعداد لقبول النفس الناطقة.
وأما النفس فإليها الإشارة بقوله: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى} ولما أضاف الروح إلى نفسه دل على أنه جوهر شريف علوي قدسي، وذهبت الحلولية إلى أن كلمة من تدل على التبعيض، وهذا يوهم أن الروح جزء من أجزاء الله تعالى، وهذا غاية الفساد، لأن كل ما له جزء وكل، فهو مركب وممكن الوجود لذاته ومحدث.
وأما كيفية نفخ الروح، فاعلم أن الأقرب أن جوهر النفس عبارة عن أجسام شفافة نورانية، علوية العنصر، قدسية الجوهر، وهي تسري في البدن سريان الضوء في الهواء، وسريان النار في الفحم، فهذا القدر معلوم.
أما كيفية ذلك النفخ فمما لا يعلمه إلا الله تعالى.
المسألة الثالثة:
الفاء في قوله: {فَقَعُواْ لَهُ ساجدين} تدل على أنه كما تم نفخ الروح في الجسد توجه أمر الله عليهم بالسجود، وأما أن المأمور بذلك السجود ملائكة الأرض، أو دخل فيه ملائكة السموات مثل جبريل وميكائيل، والروح الأعظم المذكور في قوله: {يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفًّا} [النبأ: 38] ففيه مباحث عميقة.
وقال بعض الصوفية: الملائكة الذين أمروا بالسجود لآدم، هم القوى النباتية والحيوانية الحسية والحركية، فإنها في بدن الإنسان خوادم النفس الناطقة، وإبليس الذي لم يسجد هو القوة الوهمية التي هي المنازعة لجوهر العقل، والكلام فيه طويل.
وأما بقية المسائل وهي: كيفية سجود الملائكة لآدم، وأن ذلك هل يدل على كونه أفضل من الملائكة أم لا، وأن إبليس هل كان من الملائكة أم لا، وأنه هل كان كافرًا، أصليًا أم لا، فكل ذلك تقدم في سورة البقرة وغيرها.
المسألة الرابعة:
احتج من أثبت الأعضاء والجوارح لله تعالى بقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} في إثبات يدين لله تعالى، بأن قالوا ظاهر الآية يدل عليه، فوجب المصير إليه، والآيات الكثيرة واردة على وفق هذه الآية، فوجب القطع به.
واعلم أن الدلائل الدالة على نفي كونه تعالى جسمًا مركبًا من الأجزاء والأعضاء، قد سبقت إلا أنا نذكر هاهنا نكتًا جارية مجرى الإلزامات الظاهرة فالأول: أن من قال إنه مركب من الأعضاء والأجزاء، فإما أن يثبت الأعضاء التي ورد ذكرها في القرآن ولا يزيد عليها، وإما أن يزيد عليها، فإن كان الأول لزمه إثبات صورة لا يمكن أن يزاد عليها في القبح، لأنه يلزمه إثبات وجه بحيث لا يوجد منه إلا مجرد رقعة الوجه لقوله: {كُلُّ شيء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] ويلزمه أن يثبت في تلك الرقعة عيونًا كثيرة لقوله: {تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14] وأن يثبت جنبًا واحدًا لقوله تعالى: {ياحسرتى على مَا فَرَّطَتُ في جَنبِ الله} [الزمر: 56] وأن يثبت على ذلك الجنب أيدي كثيرة لقوله تعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس: 71] وبتقدير أن يكون له يدان فإنه يجب أن يكون كلاهما على جانب واحد لقوله صلى الله عليه وسلم: «الحجر الأسود يمين الله في الأرض» وأن يثبت له ساقًا واحدًا لقوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} [القلم: 42] فيكون الحاصل من هذه الصورة، مجرد رقعة الوجه ويكون عليها عيون كثيرة، وجنب واحد ويكون عليه أيد كثيرة وساق واحد، ومعلوم أن هذه الصورة أقبح الصور، ولو كان هذا عبدًا لم يرغب أحد في شرائه، فكيف يقول العاقل إن رب العالمين موصوف بهذه الصورة.
وأما القسم الثاني: وهو أن لا يقتصر على الأعضاء المذكورة في القرآن، بل يزيد وينقص على وفق التأويلات، فحينئذ يبطل مذهبه في الحمل على مجرد الظواهر، ولابد له من قبول دلائل العقل.
الحجة الثانية: في إبطال قولهم إنهم إذا أثبتوا الأعضاء لله تعالى، فإن أثبتوا له عضو الرجل فهو رجل وأن أثبتوا له عضو النساء فهو أنثى، وإن نفوهما فهو خصي أو عنين، وتعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا.
الحجة الثالثة: أنه في ذاته سبحانه وتعالى، إما أن يكون جسمًا صلبًا لا ينغمز ألبتة، فيكون حجرًا صلبًا، وإما أن يكون قابلًا للانغماز، فيكون لينًا قابلًا للتفرق والتمزق.
وتعالى الله عن ذلك.
الحجة الرابعة: أنه إن كان بحيث لا يمكنه أن يتحرك عن مكانه، كان كالزمن المعقد العاجز، وإن كان بحيث يمكنه أن يتحرك عن مكانه، كان محلًا للتغيرات، فدخل تحت قوله: {لا أُحِبُّ الآفلين} [الأنعام: 76].
الحجة الخامسة: إن كان لا يأكل ولا يشرب ولا ينام ولا يتحرك كان كالميت، وإن كان يفعل هذه الأشياء، كان إنسانًا كثير التهمة محتاجًا إلى الأكل والشرب والوقاع وذلك باطل.
الحجة السادسة: أنهم يقولون إنه ينزل كل ليلة من العرش إلى السماء الدنيا، فنقول لهم حين نزوله: هل يبقى مدبرًا للعرش ويبقى مدبرًا للسماء الدنيا حين كان على العرش، وحينئذ لا يبقى في النزول فائدة، وإن لم يبق مدبرًا للعرش فعند نزوله يصير معزولًا عن إلهية العرش والسموات.
الحجة السابعة: أنهم يقولون إنه تعالى أعظم من العرش، وإن العرش لا نسبة لعظمته إلى عظمة الكرسي، وعلى هذا الترتيب حتى ينتهي إلى السماء الدنيا، فإذا كان كذلك كانت السماء الدنيا بالنسبة إلى عظمة الله كالذرة بالنسبة إلى البحر، فإذا نزل فإما أن يقال إن الإله يصير صغيرًا بحيث تسعه السماء الدنيا، وإما أن يقال إن السماء الدنيا تصير أعظم من العرش، وكل ذلك باطل.
الحجة الثامنة: ثبت أن العالم كرة، فإن كان فوق بالنسبة إلى قوم كانت تحت بالنسبة إلى قوم آخرين وذلك باطل، وإن كان فوق بالنسبة إلى الكل، فحينئذ يكون جسمًا محيطًا بهذا العالم من كل الجوانب، فيكون إله العالم على هذا القول فلكًا من الأفلاك.
الحجة التاسعة: لما كانت الأرض كرة، وكانت السموات كرات، فكل ساعة تفرض الساعات فإنها تكون ثلث الليل في حق أقوام معينين من سكان كرة العوارض، فلو نزل من العرش في ثلث الليل وجب أن يبقى أبدًا نازلًا عن العرش، وأن لا يرجع إلى العرش ألبتة.
الحجة العاشرة: أنا إنما زيفنا إلهية الشمس والقمر لثلاثة أنواع من العيوب أولها: كونه مؤلفًا من الأجزاء والأبعاض وثانيها: كونه محدودًا متناهيًا وثالثها: كونه موصوفًا بالحركة والسكون والطلوع والغروب، فإذا كان إله المشبهة مؤلفًا من الأعضاء والأجزاء كان مركبًا، فإذا كان العرش كان محدودًا متناهيًا، وإن كان ينزل من العرش ويرجع إليه كان موصوفًا بالحركة والسكون، فهذه الصفات الثلاثة إن كانت منافية للألهية وجب تنزيه الإله عنها بأسرها، وذلك يبطل قول المشبهة، وإن لم تكن منافية للألهية فحينئذ لا يقدر أحد على الطعن في إلهية الشمس والقمر.
الحجة الحادية عشرة: قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ولفظ الأحد مبالغة في الوحدة، وذلك ينافي كونه مركبًا من الأجزاء والأبعاض.
الحجة الثانية عشرة: قوله تعالى: {والله الغني وَأَنتُمُ الفقراء} [محمد: 38] ولو كان مركبًا من الأجزاء والأبعاض لكان محتاجًا إليها وذلك يمنع من كونه غنيًا على الإطلاق، فثبت بهذه الوجوه أن القول بإثبات الأعضاء والأجزاء لله محال، ولما ثبت بالدلائل اليقينية وجوب تنزيه الله تعالى، عن هذه الأعضاء، فنقول ذكر العلماء في لفظ اليد وجوهًا الأول: أن اليد عبارة عن القدرة تقول العرب ما لي بهذا الأمر من يد، أي من قوة وطاقة، قال تعالى: {أَوْ يَعْفُوَاْ الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح} [البقرة: 237]، الثاني: اليد عبارة عن النعمة يقال أيادي فلان في حق فلان ظاهرة والمراد النعم والمراد باليدين النعم الظاهرة والباطنة أو نعم الدين والدنيا الثالث: أن لفظ اليد قد يزاد للتأكيد كقول القائل لمن جنى باللسان هذا ما كسبت يداك وكقوله تعالى: {بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ} [الأعراف: 57].
ولقائل أن يقول حمل اليد على القدرة هاهنا غير جائز، ويدل عليه وجوه الأول: أن ظاهر الآية يقتضي إثبات اليدين، فلو كانت اليد عبارة عن القدرة لزم إثبات قدرتين لله وهو باطل والثاني: أن الآية تقتضي أن كون آدم مخلوقًا باليدين يوجب فضيلته وكونه مسجودًا للملائكة، فلو كانت اليد عبارة عن القدرة لكان آدم مخلوقًا بالقدرة، لكن جميع الأشياء مخلوقة بقدرة الله تعالى فكما أن آدم عليه السلام مخلوق بيد الله تعالى، فكذلك إبليس مخلوق بيد الله تعالى، وعلى تقدير أن تكون اليد عبارة عن القدرة، لم تكن هذه العلة علة لكون آدم مسجودًا لإبليس أولى من أن يكون إبليس مسجودًا لآدم، وحينئذٍ يختل نظم الآية ويبطل الثالث: أنه جاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: «كلتا يديه يمنى» ومعلوم أن هذا الوصف لا يليق بالقدرة.
وأما التأويل الثاني: وهو حمل اليدين على النعمتين فهو أيضًا باطل لوجوه الأول: أن نعم الله تعالى كثيرة كما قال: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] وظاهر الآية يدل على أن اليد لا تزيد على الإثنتين الثاني: لو كانت اليد عبارة عن النعمة فنقول النعمة مخلوقة لله فحينئذٍ لا يكون آدم مخلوقًا لله تعالى بل يكون مخلوقًا لبعض المخلوقات، وذلك بأن يكون سببًا لمزيد النقصان أولى من أن يكون سببًا لمزيد الكمال الثالث: لو كانت اليد عبارة عن النعمة لكان قوله: {تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ الملك} [الملك: 1] معناه تبارك الذي بنعمته الملك ولكان قوله: «بيدك الخير» معناه بنعمتك الخير ولكان قوله: {يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] معناه نعمتان مبسوطتان، ومعلوم أن كل ذلك فاسد.
وأما التأويل الثالث: وهو قوله إن لفظ اليد قد يذكر زيادة لأجل التأكيد فنقول لفظ اليد قد يستعمل في حق من يكون هذا العضو حاصلًا له وفي حق من لا يكون هذا العضو حاصلًا في حقه أما الأول: فكقولهم في حق من جنى بلسانه هذا ما كسبت يداك والسبب في هذا أن محل القدرة هو اليد فأطلق اسم اليد على القدرة، وعلى هذا التقدير فيصير المراد من لفظ اليد القدرة، وقد تقدم إبطال هذا الوجه وأما الثاني: فكقوله: {بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: 46] وقوله: بين يدي الساعة إلا أنا نقول هذا المجاز بهذا اللفظ مذكور والمجاز لا يقاس عليه ولا يكون مطردًا، فلا جرم لا يجوز أن يقال إن هذا المعنى إنما حصل بيد العذاب وبيد الساعة، ونحن نسلم أن قوله: {لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىِ الله وَرَسُولُهُ} [الحجرات: 1] قد يجوز أن يراد به التأكيد والصلة، أما المذكور في هذه الآية ليس هذا اللفظ بل قوله تعالى: {خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} وإن كان القياس في المجازات باطلًا فقد سقط كلامكم بالكلية، فهذا منتهى البحث في هذا الباب.
والذي تلخص عندي في هذا الباب أن السلطان العظيم لا يقدر على عمل شيء بيده إلا إذا كانت غاية عنايته مصروفة إلى ذلك العمل، فإذا كانت العناية الشديدة من لوازم العمل باليد أمكن جعله مجازًا عنه عند قيام الدلائل القاهرة.
فهذا ما لخصناه في هذا الباب، والله أعلم.
أما قوله تعالى: {اسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين} فالمعنى: استكبرت الآن أم كنت أبدًا من المتكبرين العالين، فأجاب إبليس بقوله: {أَنَا خَيْرٌ مّنْه خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} فالمعنى أني لو كنت مساويًا له في الشرف لكان يقبح أمري بسجودي له فكيف وأنا خير منه ثم بين كونه خيرًا منه بأن أصله من النار والنار أشرف من الطين، فصح أن أصله خير من أصل آدم ومن كان أصله خيرًا من أصله فهو خير منه فهذه مقدمات ثلاثة:
المقدمة الأولى: أن إبليس مخلوق من النار، يدل عليه قوله تعالى حكاية عنه: {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} وقوله تعالى: {والجآن خلقناه مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم} [الحجر: 27].
المقدمة الثانية: أن النار أفضل من الطين ويدل عليه وجوه الأول: أن الأجرام الفلكية أشرف من الأجرام العنصرية والنار أقرب العناصر من الفلك والأرض أبعدها عنه فوجب كون النار أفضل من الأرض الثاني: أن النار خليفة الشمس والقمر في إضاءة هذا العالم عند غيبتهما والشمس والقمر أشرف من الأرض، فخليفتهما في الإضاءة أفضل من الأرض الثالث: أن الكيفية الفاعلة الأصلية، إما الحرارة أو البرودة والحرارة أفضل من البرودة لأن الحرارة تناسب الحياة والبرودة تناسب الموت الرابع: الأرض كثيفة والنار لطيفة واللطافة أشرف من الكثافة الخامس: النار مشرقة والأرض مظلمة والنور خير من الظلمة السادس: النار خفيفة تشبه الروح والأرض ثقيلة تشبه الجسد والروح أفضل من الجسد فالنار أفضل من الأرض ولذلك فإن الأطباء أطبقوا على أن العنصرين الثقيلين أعون على تركيب الأجساد وأن العنصرين الخفيفين أعون على تولد الأرواح السابع: النار صاعدة والأرض هابطة والصاعد أفضل من الهابط الثامن: أن أول بروج الفلك هو الحمل لأنه هو الذي يبدأ من نقطة الاستواء الشمالي، ثم إن الحمل على طبيعة النار وأشرف أعضاء الحيوان والقلب والروح وهما على طبيعة النار وأخس أعضاء الحيوان هو العظم وهو بارد يابس أرضي التاسع: أن الأجسام الأرضية كلما كانت أشد نورانية ومشابهة بالنار كانت أشرف وكلما كانت أكثر غبرة وكثافة وكدورة ومشابهة بالأرض كانت أخس، مثاله الأجسام الشبيهة بالنار الذهب والياقوت والأحجار الصافية النورانية ومثاله أيضًا من الثياب الإبريسم وما يتخذ منه، وأما أن كل ما كان أكثر أرضية وغبرة فهو أخس فالأمر ظاهر العاشر: أن القوة الباصرة قوة في غاية الشرف والجلالة ولا يتم عملها إلا بالشعاع وهو جسم شبيه بالنار الحادي عشر: أن أشرف أجسام العالم الجسماني هو الشمس ولا شك أنه شبيه بالنار في صورته وطبيعته وأثره الثاني عشر: أن النضج والهضم والحياة لا تتم إلا بالحرارة ولولا قوة الحرارة لما تم المزاج وتولدت المركبات الثالث عشر: أن أقوى العناصر الأربعة في قوة الفعل هو النار وأكملها في قوة الانفعال هو الأرض والفعل فضل من الانفعال فالنار أفضل من الأرض.
أما القائلون بتفضيل الأرض على النار فذكروا أيضًا وجوهًا الأول: أن الأرض أمين مصلح فإذا أودعتها حبة ردتها إليك شجرة مثمرة والنار خائنة تفسد كل ما أسلمته إليها الثاني: أن الحس البصري أثنى على النار فليستمع ما يقوله الحس اللمسي الثالث: أن الأرض مستولية على النار فإنها تطفىء النار، وأما النار فإنها لا تؤثر في الأرض الخالصة.
وأما المقدمة الثالثة: فهي أن من كان أصله خيرًا من أصله فهو خير منه، فاعلم أن هذه المقدمة كاذبة جدًّا وذلك لأن أصل الرماد النار وأصل البساتين النزهة والأشجار المثمرة هو الطين ومعلوم بالضرورة أن الأشجار المثمرة خير من الرماد، وأيضًا فهب أن اعتبار هذه الجهة يوجب الفضيلة إلا أن هذا يمكن أن يصير معارضًا بجهة أخرى توجب الرجحان مثل إنسان نسيب عار عن كل الفضائل فإن نسبه يوجب رجحانه، إلا أن الذي لا يكون نسبيًا قد يكون كثير العلم والزهد فيكون هو أفضل من ذلك النسيب بدرجات لا حد لها، فالمقدمة الكاذبة في القياس الذي ذكره إبليس هو هذه المقدمة، فإن قال قائل هب أن إبليس أخطأ في هذا القياس لكن كيف لزمه الكفر من تلك المخالفة؟ وبيان هذا السؤال من وجوه الأول: أن قوله: {اسجدوا} أمر والأمر لا يقتضي الوجوب بل الندب ومخالفة الندب لا توجب العصيان فضلًا عن الكفر، وأيضًا فالذين يقولون إن الأمر للوجوب فهم لا ينكرون كونه محتملًا للندب احتمالًا ظاهرًا ومع قيام هذا الاحتمال الظاهر كيف يلزم العصيان فضلًا عن الكفر الثاني: هب أنه للوجوب إلا أن إبليس ما كان من الملائكة فأمر الملائكة بسجود آدم لا يدخل فيه إبليس الثالث: هب أنه يتناوله إلا أن تخصيص العام بالقياس جائز فخصص نفسه عن عموم ذلك الأمر بالقياس الرابع: هب أنه لم يسجد مع علمه بأنه كان مأمورًا به إلا أن هذا القدر يوجب العصيان ولا يوجب الكفر فكيف لزمه الكفر الجواب: هب أن صيغة الأمر لا تدل على الوجوب ولكن يجوز أن ينضم إليها من القرائن ما يدل على الوجوب، وههنا حصلت تلك القرائن وهي قوله تعالى: {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين} فلما أتى إبليس بقياسه الفاسد دل ذلك على أنه إنما ذكر ذلك القياس ليتوسل به إلى القدح في أمر الله وتكليفه وذلك يوجب الكفر.